فصل: تفسير الآيات رقم (1- 10)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 44‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ‏(‏31‏)‏ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ‏(‏33‏)‏ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏34‏)‏ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏35‏)‏ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏36‏)‏ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ‏(‏37‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏38‏)‏ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏40‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏41‏)‏ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏42‏)‏ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ ‏(‏43‏)‏ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ‏}‏ أي إنك وإياهم فغلب ضمير المخاطب على ضمير الغيب ‏{‏يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏ فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت فكذبوا واجتهدت في الدعوة، فلجّوا في العناد ويعتذرون بما لا طائل تحته، تقول الأتباع‏:‏ أطعنا ساداتنا وكبراءنا، وتقول السادات‏:‏ أغوتنا الشياطين وآباؤنا الأقدمون‏.‏ قال الصحابة رضى الله عنهم أجمعين‏:‏ ما خصومتنا ونحن إخوان‏!‏ فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا‏:‏ هذه خصومتنا‏.‏ عن أبي العالية‏:‏ نزلت في أهل القبلة وذلك في الدماء والمظالم التي بينهم‏.‏ والوجه هو الأوّل ألا ترى إلى قوله ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله‏}‏ وقوله ‏{‏والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ وما هو إلا بيان وتفسير للذين تكون بينهم الخصومة‏.‏ ‏{‏كَذَبَ علَى الله‏}‏ افترى عليه بإضافة الولد والشريك إليه ‏{‏وَكَذَّبَ بالصدق‏}‏ بالأمر الذي هو الصدق بعينه وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏إِذْ جَآءَهُ‏}‏ فاجأه بالتكذيب لما سمع به من غير وقفة لإعمال روية أو اهتمام بتمييز بين حق وباطل كما يفعل أهل النصفة فيما يسمعون ‏{‏أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين‏}‏ أي لهؤلاء الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق‏.‏ واللام في ‏{‏للكافرين‏}‏ إشارة إليهم ‏{‏والذى جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالحق وآمن به وأراد به إياه ومن تبعه كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله ‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 49‏]‏ فلذا قال تعالى ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون‏}‏ وقال الزجاج‏:‏ رُوي عن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ والذي جاء بالصدق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏.‏ ورُوي أن الذي جاء بالصدق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به المؤمنون، والكل صحيح كذا قاله‏.‏ قالوا‏:‏ والوجه في العربية أن يكون «جاء» و«صدق» لفاعل واحد لأن التغاير يستدعي إضمار الذي، وذا غير جائز، أو إضمار الفاعل من غير تقدم الذكر وذا بعيد‏.‏

‏{‏لَهُم مَّا يَشَآءَونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ المحسنين لِيُكَفِّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذى عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ إضافة أسوأ وأحسن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفضيل كقولك‏:‏ الأشج أعدل بني مروان‏.‏

‏{‏أَلَيْسَ الله بِكَافٍ‏}‏ أدخلت همزة الإنكار على كلمة النفي فأفيد معنى إثبات الكفاية وتقريرها ‏{‏عَبْدَهُ‏}‏ أي محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏عباده‏}‏ حمزة وعلي أي الأنبياء والمؤمنين وهو مثل ‏{‏إِنَّا كفيناك المستهزءين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 95‏]‏ ‏{‏وَيُخَوِّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ‏}‏ أي بالأوثان التي اتخذوها آلهة من دونه، وذلك أن قريشاً قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا وإنا نخشى عليك مضرتها لعيبك إياها ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ‏}‏ بغالب منيع ‏{‏ذِى انتقام‏}‏ ينتقم من أعدائه، وفيه وعيد لقريش ووعد للمؤمنين بأنه ينتقم لهم منهم وينصرهم عليهم‏.‏

ثم أعلم بأنهم مع عبادتهم الأوثان مقرون بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض بقوله ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِىَ الله‏}‏ بفتح الياء سوى حمزة ‏{‏بِضُرٍّ‏}‏ مرض أو فقر أو غير ذلك ‏{‏هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرِّهِ‏}‏ دافعات شدته عني ‏{‏أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ‏}‏ صحة أو غنى أو نحوهما ‏{‏هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ‏}‏ ‏{‏كاشفات ضُرّهِ‏}‏، و‏{‏ممسكات رَحْمَتِهِ‏}‏ بالتنوين على الأصل‏:‏ بصري، وفرض المسئلة في نفسه دونهم لأنهم خوفوه معرة الأوثان وتخبيلها، فأمر بأن يقررهم أولاً بأن خالق العالم هو الله وحده ثم يقول لهم بعد التقرير‏:‏ فإن أرادني خالق العالم الذي أقررتم به بضر أو برحمة هل يقدرون على خلاف ذلك‏؟‏ فلما أفحمهم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ حَسْبِىَ الله‏}‏ كافياً لمعرة أوثانكم ‏{‏عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون‏}‏ يُروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم فسكتوا فنزل ‏{‏قُلْ حَسْبِىَ الله‏}‏، وإنما قال ‏{‏كاشفات‏}‏ و‏{‏ممسكات‏}‏ على التأنيث بعد قوله ‏{‏وَيُخَوّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ‏}‏ لأنهن إناث وهن اللات والعزى ومناة، وفيه تهكم بهم وبمعبوديهم‏.‏

‏{‏قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ‏}‏ على حالكم التي أنتم عليها وجهتكم من العداوة التي تمكنتم منها، والمكانة بمعنى المكان فاستعيرت عن العين للمعنى كما يستعار هنا وحيث للزمان وهما للمكان ‏{‏إِنِّى عامل‏}‏ أي على مكانتي وحذف للاختصار ولما فيه من زيادة الوعيد والإيذان بأن حالته تزداد كل يوم قوّة لأن الله تعالى ناصره ومعينه، ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ‏}‏ كيف توعدهم بكونه منصوراً عليهم غالباً عليهم في الدنيا والآخرة، لأنهم إذا أتاهم الخزي والعذاب فذاك عزه وغلبته من حيث إن الغلبة تتم له بعز عزيز من أوليائه وبذل ذليل من أعدائه، و‏{‏يُخْزِيهِ‏}‏ صفة للعذاب ك ‏{‏مُّقِيمٌ‏}‏ أي عذاب مخزلة وهو يوم بدر، وعذاب دائم وهو عذاب النار‏.‏ ‏{‏مكاناتكم‏}‏ أبو بكر وحماد‏.‏

‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب‏}‏ القرآن ‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه ليبشروا وينذروا فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية ‏{‏بالحق فَمَنِ اهتدى فَلِنَفْسِهِ‏}‏ فمن اختار الهدى فقد نفع نفسه ‏{‏وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا‏}‏ ومن اختار الضلالة فقد ضرها ‏{‏وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ‏}‏ بحفيظ‏.‏

‏{‏ثم أخبر بأنه الحفيظ القدير عليهم بقوله ‏{‏الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا‏}‏ الأنفس الجمل كما هي، وتوفيها إماتتها وهو أن يسلب ما هي به حية حساسة دراكة ‏{‏والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا‏}‏ ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها أي يتوفاها حين تنام تشبيهاً للنائمين بالموتى حيث لا يميزون ولا يتصرفون كما أن الموتى كذلك، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 60‏]‏ ‏{‏فَيُمْسِكُ‏}‏ الأنفس ‏{‏التى قضى‏}‏ ‏{‏قُضِىَ‏}‏ حمزة وعلي‏.‏ ‏{‏عَلَيْهَا الموت‏}‏ الحقيقي أي لا يردها في وقتها حية ‏{‏وَيُرْسِلُ الأخرى‏}‏ النائمة ‏{‏إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ إلى وقت ضربه لموتها‏.‏ وقيل‏:‏ يتوفى الأنفس أي يستوفيها ويقبضها وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة، ويتوفى الأنفس التي لم تمت في مقامها وهي أنفس التمييز‏.‏ قالوا‏:‏ فالتي تتوفى في المنام هي نفس التمييز لا نفس الحياة لأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفسَ والنائم يتنفس، ولكل إنسان نفسان‏:‏ إحداهما نفس الحياة وهي التي تفارق عند الموت، والأخرى نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام‏.‏ ورُوي عن ابن عباس رضى الله عنهما‏:‏ في ابن آدم نفس وروح بينهما شعاع مثل شعاع الشمس، فالنفس هي التي بها العقل والتمييز، والروح هي التي بها النفس والتحرك، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه‏.‏ وعن علي رضي الله عنه قال‏:‏ تخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعها في الجسد فذلك يرى الرؤيا، فإذا انتبه من النوم عاد الروح إلى جسده بأسرع من لحظة، وعنه ما رأت عين النائم في السماء فهي الرؤيا الصادقة، وما رأت بعد الإرسال فيلقنها الشيطان فهي كاذبة‏.‏

وعن سعيد بن جبير‏:‏ أن أرواح الأحياء وأرواح الأموات تلتقي في المنام فيتعارف منها ما شاء الله أن يتعارف، فيمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجسادها إلى انقضاء حياتها‏.‏ ورُوي أن أرواح المؤمنين تعرج عند النوم في السماء فمن كان منهم طاهراً أذن في السجود، ومن لم يكن منهم طاهراً لم يؤذن له فيه ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ إن في توفي الأنفس ميتة ونائمة وإمساكها وإرسالها إلى أجل ‏{‏لآيَاتٍ‏}‏ على قدرة الله وعلمه ‏{‏لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ يجيلون فيه أفكارهم ويعتبرون ‏{‏أَمِ اتخذوا‏}‏ بل اتخذ قريش والهمزة للإنكار ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ من دون إذنه ‏{‏شُفَعَآءَ‏}‏ حين قالوا ‏{‏هؤلاءآء شفعاؤنا عِندَ الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏ ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ‏{‏قُلْ أَوَ لَّوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ معناه أيشفعون ولو كانوا لا يملكون شيئاً قط ولا عقل لهم‏؟‏ ‏{‏قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً‏}‏ أي هو مالكها فلا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه وانتصب ‏{‏جَمِيعاً‏}‏ على الحال ‏{‏لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض‏}‏ تقرير لقوله ‏{‏لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً‏}‏ لأنه إذا كان له الملك كله والشفاعة من الملك كان مالكاً لها‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ متصل بما يليه معناه له ملك السماوات والأرض واليوم ثم إليه ترجعون يوم القيامة فلا يكون الملك في ذلك اليوم إلا له فله ملك الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 50‏]‏

‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏45‏)‏ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏46‏)‏ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ‏(‏47‏)‏ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏48‏)‏ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏49‏)‏ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ‏}‏ مدار المعنى على قوله ‏{‏وَحْدَهُ‏}‏ أي إذا أفرد الله بالذكر ولم تذكر معه آلهتهم ‏{‏اشمأزت‏}‏ أي نفرت وانقبضت ‏{‏قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ‏}‏ يعني آلهتهم ذكر الله معهم أو لم يذكر ‏{‏إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ لافتتانهم بها، وإذا قيل لا إله إلا الله وحده لا شريك له نفروا لأن فيه نفياً لآلهتهم، ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز إذ كل واحد منهما غاية في بابه، فالاستبشار أن يمتلئ قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلل، والاشمئزاز أن يمتلئ غماً وغيظاً حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه، والعامل في ‏{‏إِذَا ذُكِرَ‏}‏ هو العامل في «إذا» المفاجأة‏.‏ تقديره‏:‏ وقت ذكر الذين من دونه فاجئوا وقت الاستبشار ‏{‏قُلِ اللهم فَاطِرَ السماوات والأرض‏}‏ أي يا فاطر، وليس بوصف كما يقوله المبرد والفراء ‏{‏عالم الغيب والشهادة‏}‏ السر والعلانية ‏{‏أَنتَ تَحْكُمُ‏}‏ تقضي ‏{‏بَيْنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ من الهدى والضلالة، وقيل‏:‏ هذه محاكمة من النبي للمشركين إلى الله‏.‏ وعن ابن المسيب‏:‏ لا أعرف آية قرئت فدعي عندها إلا أجيب سواها‏.‏ وعن الربيع بن خيثم وكان قليل الكلام أنه أخبر بقتل الحسين رضي الله عنه وقالوا‏:‏ الآن يتكلم فما زاد أن قال‏:‏ آه أوقد فعلوا وقرأ هذه الآية‏.‏ ورُوي أنه قال على أثره‏:‏ قتل من كان صلى الله عليه وسلم يجلسه في حجره ويضع فاه على فيه‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ‏}‏ الهاء تعود إلى «ما» ‏{‏لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوءِ العذاب‏}‏ شدته ‏{‏يَوْمَ القيامة وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ‏}‏ وظهر لهم من سخط الله وعذابه ما لم يكن قط في حسبانهم ولا يحدثون به نفوسهم‏.‏ وقيل‏:‏ عملوا أعمالاً حسبوها حسنات فإذا هي سيئات، وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال‏:‏ ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء‏.‏ وجزع محمد بن المنكدر عند موته فقيل له فقال‏:‏ أخشى آية من كتاب الله وتلاها، فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أحتسبه ‏{‏وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ‏}‏ أي سيئات أعمالهم التي كسبوها أو سيئات كسبهم حين تعرض صحائف أعمالهم وكانت خافية عليهم أو عقاب ذلك ‏{‏وَحَاقَ بِهِم‏}‏ ونزل بهم وأحاط ‏{‏مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ‏}‏ جزاء هزئهم‏.‏

‏{‏فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خولناه‏}‏ أي أعطيناه تفضلاً‏.‏ يقال‏:‏ خولني إذا أعطاك على غير جزاء ‏{‏نِعْمَةً مِّنَّا‏}‏ ولا تقف عليه لأن جواب «إذا» ‏{‏قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ‏}‏ مني أني سأعطاه لما فيّ من فضل واستحقاق، أو على علم مني بوجوه الكسب كما قال قارون

‏{‏على عِلْمٍ عِندِى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 78‏]‏ وإنما ذكر الضمير في ‏{‏أُوتِيتُهُ‏}‏ وهو للنعمة نظراً إلى المعنى لأن قوله ‏{‏نِعْمَةً مّنَّا‏}‏ شيئاً من النعمة وقسماً منها‏.‏ وقيل‏:‏ «ما» في «إنما» موصولة لا كافة فيرجع الضمير إليها أي إن الذي أوتيته على علم ‏{‏بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ‏}‏ إنكار له كأنه قال‏:‏ ما خولناك من النعمة لما تقول بل هي فتنة أي ابتلاء وامتحان لك أتشكر أم تكفر‏.‏ ولما كان الخبر مؤنثاً أعني فتنة ساغ تأنيث المبتدأ لأجله، وقريء بل هو فتنة على وفق ‏{‏إِنَّمَا أُوتِيتُهُ‏}‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أنها فتنة، والسبب في عطف هذه الآية بالفاء وعطف مثلها في أول السورة بالواو، أن هذه وقعت مسببة عن قوله ‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت‏}‏ على معنى أنهم يشمئزون من ذكر الله ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأز بذكره دون من استبشر بذكره وما بينهما من الآي اعتراض‏.‏

فإن قلت‏:‏ حق الاعتراض أن يؤكد المعترض بينه وبينه‏.‏ قلت‏:‏ ما في الاعتراض من دعاء الرسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بأمر من الله وقوله ‏{‏أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ‏}‏ ثم ما عقبه من الوعيد العظيم، تأكيد لإنكار اشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم كأنه قيل‏:‏ يا رب لا يحكم بيني وبين هؤلاء الذين يجترئون عليك مثل هذه الجرأة إلا أنت، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ‏}‏ متناول هم ولكل ظالم إن جعل عاماً، أو إياهم خاصة إن عنيتهم به كأنه قيل‏:‏ ولو أن لهؤلاء الظالمين ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به حين حكم عليهم بسوء العذاب، وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة وما هي إلا جملة ناسبت جملة قبلها فعطفت عليها بالواو نحو «قام زيد وقعد عمرو»، وبيان وقوعها مسببة أنك تقول‏:‏ زيد يؤمن بالله فإذا مسه ضر التجأ إليه، فهذا تسبيب ظاهر، ثم تقول‏:‏ زيد كافر بالله فإذا مسه ضر التجأ إليه، فتجيء بالفاء مجيئك بها ثمة كأن الكافر حين التجأ إلى الله التجاء المؤمن إليه مقيم كفره مقام الإيمان في جعله سبباً في الالتجاء ‏{‏قَدْ قَالَهَا‏}‏ هذه المقالة وهي قوله ‏{‏إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ‏}‏ ‏{‏الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ أي قارون وقومه حيث قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 78‏]‏ وقومه راضون بها، فكأنهم قالوها، ويجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها ‏{‏فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ من متاع الدنيا وما يجمعون منها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 59‏]‏

‏{‏فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏51‏)‏ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏53‏)‏ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏54‏)‏ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏55‏)‏ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ‏(‏56‏)‏ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏57‏)‏ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏58‏)‏ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏فأصابهم سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ‏}‏ أي جزاء سيئات كسبهم، أو سمى جزاء السيئة سيئة للازدواج كقوله‏:‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏‏.‏ ‏{‏والذين ظَلَمُواْ‏}‏ كفروا ‏{‏مِنْ هَؤُلآءِ‏}‏ أي من مشركي قومك ‏{‏سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ‏}‏ أي سيصيبهم مثل ما أصاب أولئك، فقتل صناديدهم ببدر وحبس عنهم الرزق فقحطوا سبع سنين ‏{‏وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ‏}‏ بفائتين من عذاب الله، ثم بسط لهم فمطروا سبع سنين فقيل لهم ‏{‏أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ‏}‏ ويضيق‏.‏ وقيل‏:‏ يجعله على قدر القوت ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ بأنه لا قابض ولا باسط إلا الله عز وجل‏.‏

‏{‏قُلْ ياعبادى الذين‏}‏ وبسكون الياء‏:‏ بصري وحمزة وعلي ‏{‏أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ‏}‏ جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والغلو فيها ‏{‏لاَ تَقْنَطُواْ‏}‏ لا تيأسوا، وبكسر النون‏:‏ علي وبصري ‏{‏مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً‏}‏ بالعفو عنها إلا الشرك، وفي قراءة النبي عليه السلام يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي، ونظير نفي المبالاة نفي الخوف في قوله ‏{‏وَلاَ يَخَافُ عقباها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 16‏]‏‏.‏ قيل‏:‏ نزلت في وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية ‏"‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ الغفور‏}‏ بستر عظائم الذنوب ‏{‏الرحيم‏}‏ بكشف فظائع الكروب ‏{‏وَأَنِيبُواْ إلى رَبِّكُمْ‏}‏ وتوبوا إليه ‏{‏وَأَسْلِمُواْ لَهُ‏}‏ وأخلصوا له العمل ‏{‏مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ‏}‏ إن لم تتوبوا قبل نزول العقاب ‏{‏واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ‏}‏ مثل قوله‏:‏ ‏{‏الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏}‏ وقوله ‏{‏مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ‏}‏ أي يفجؤكم وأنتم غافلون كأنكم لا تخشون شيئاً لفرط غفلتكم‏.‏

‏{‏أَن تَقُولَ‏}‏ لئلا تقول ‏{‏نَفْسٌ‏}‏ إنما نكرت لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكافر، ويجوز أن يراد نفس متميزة من الأنفس إما بلجاج في الكفر شديد أو بعذاب عظيم، ويجوز أن يراد التكثير ‏{‏ياحسرتى‏}‏ الألف بدل من ياء المتكلم، وقرئ‏:‏ ‏{‏يا حسرتي‏}‏ على الأصل و‏{‏يا حسرتاي‏}‏ على الجمع بين العوض والمعوض منه ‏{‏على مَا فَرَّطَتُ‏}‏ قصرت و«ما» مصدرية مثلها في ‏{‏بِمَا رَحُبَتْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 25‏]‏ ‏{‏فِى جَنبِ الله‏}‏ في أمر الله أو في طاعة الله أو في ذاته، وفي حرف عبد الله في ذكر الله والجنب الجانب يقال‏:‏ أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته، وفلان لين الجانب والجنب، ثم قالوا‏:‏ فرط في جنبه وفي جانبه يريدون في حقه، وهذا من باب الكناية لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه فقد أثبته فيه، ومنه الحديث‏:‏

‏"‏ من الشرك الخفي أن يصلي الرجل لمكان الرجل ‏"‏ أي لأجله، وقال الزجاج‏:‏ معناه فرط في طريق الله وهو توحيده والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين‏}‏ المستهزئين‏.‏ قال قتادة‏:‏ لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها‏.‏ ومحل ‏{‏وَإِن كُنتُ‏}‏ النصب على الحال كأنه قال‏:‏ فرطت وأنا ساخر أي فرطت في حال سخريتي ‏{‏أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى‏}‏ أي أعطاني الهداية ‏{‏لَكُنتُ مِنَ المتقين‏}‏ من الذين يتقون الشرك، قال الشيخ الإمام أبو منصور رحمه الله تعالى‏:‏ هذا الكافر أعرف بهداية الله من المعتزلة، وكذا أولئك الكفرة الذين قالوا لأتباعهم‏:‏ ‏{‏لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 21‏]‏ يقولون‏:‏ لو وفقنا الله للهداية وأعطانا الهدى لدعوناكم إليه، ولكن علم منا اختيار الضلالة والغواية فخذلنا ولم يوفقنا، والمعتزلة يقولون‏:‏ بل هداهم وأعطاهم التوفيق لكنهم لم يهتدوا‏.‏ والحاصل أن عند الله لطفاً من أعطى ذلك اهتدى، وهو التوفيق والعصمة ومن لم يعطه ضل وغوى، وكان استحبابه العذاب وتضييعه الحق بعدما مكن من تحصيله لذلك ‏{‏أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً‏}‏ رجعة إلى الدنيا ‏{‏فَأَكُونَ مِنَ المحسنين‏}‏ من الموحدين ‏{‏بلى قَدْ جَآءَتْكَ ءاياتى فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت وَكُنتَ مِنَ الكافرين‏}‏ «بلى» رد من الله عليه كأنه يقول‏:‏ بلى قد جاءتك آياتي وبينت لك الهداية من الغواية وسبيل الحق من الباطل ومكنتك من اختيار الهداية على الغواية واختيار الحق على الباطل، ولكن تركت ذلك وضيعته واستكبرت عن قبوله، وآثرت الضلالة على الهدى، واشتغلت بضد ما أمرت به فإنما جاء التضييع من قبلك فلا عذر لك، و‏{‏بلى‏}‏ جواب لنفي تقديري لأن المعنى‏:‏ لو أن الله هداني ما هديت وإنما لم يقرن الجواب به، لأنه لا بد من حكاية أقوال النفس على ترتيبها ثم الجواب من بينها عما اقتضى الجواب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 73‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏60‏)‏ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏61‏)‏ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏62‏)‏ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏63‏)‏ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ‏(‏64‏)‏ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏65‏)‏ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏66‏)‏ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏67‏)‏ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ‏(‏68‏)‏ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏69‏)‏ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏70‏)‏ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏71‏)‏ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏72‏)‏ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله‏}‏ وصفوه بما لا يجوز عليه من إضافة الشريك والولد إليه، ونفى الصفات عنه ‏{‏وُجُوهُهُمْ‏}‏ مبتدأ ‏{‏مُّسْوَدَّةٌ‏}‏ خبر والجملة في محل النصب على الحال إن كان ترى من رؤية البصر، وإن كان من رؤية القلب فمفعول ثانٍ ‏{‏أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى‏}‏ منزل ‏{‏لِّلْمُتَكَبِّرِينَ‏}‏ هو إشارة إلى قوله ‏{‏واستكبرت‏}‏ ‏{‏وَيُنَجِّى الله‏}‏ ‏{‏وَيُنَجّى‏}‏‏:‏ روح ‏{‏الذين اتقوا‏}‏ من الشرك ‏{‏بِمَفَازَتِهِمْ‏}‏ بفلاحهم يقال‏:‏ فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده منه وتفسيره المفازة ‏{‏لاَ يَمَسُّهُمُ السوء‏}‏ النار ‏{‏وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ وما مفازتهم‏؟‏ قيل‏:‏ لا يمسهم السوء أي ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم‏.‏ أي لا يمس أبدانهم أذى ولا قلوبهم خزي، أو بسبب منجاتهم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ العذاب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 188‏]‏‏.‏ أي بمنجاة منه؛ لأن النجاة من أعظم الفلاح وسبب منجاتهم العمل الصالح، ولهذا فسر ابن عباس رضي الله عنهما المفازة بالأعمال الحسنة ويجوز بسبب فلاحهم لأن العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة، ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه مفازة لأنه سببها، ولا محل ل ‏{‏لاَ يَمَسُّهُمُ‏}‏ على التفسير الأول لأنه كلام مستأنف، ومحله النصب على الحال على الثاني‏.‏ ‏{‏بمفازاتهم‏}‏ كوفي غير حفص‏.‏

‏{‏الله خالق كُلِّ شَئ‏}‏ رد على المعتزلة والثنوية ‏{‏وَهُوَ على كُلِّ شَئ وَكِيلٌ‏}‏ حافظ‏.‏ ‏{‏لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض‏}‏ أي هو مالك أمرها وحافظها، وهو من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها، ومنه قولهم‏:‏ فلان ألقيت إليه مقاليد الملك وهي المفاتيح واحدها مقليد، وقيل‏:‏ لا واحد لها من لفظها، والكلمة أصلها فارسية ‏{‏والذين كَفَرُواْ بئايات الله أُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون‏}‏ هو متصل بقوله ‏{‏وَيُنَجّى الله الذين اتقوا‏}‏ أي ينجي الله المتقين بمفازاتهم والذين كفروا هم الخاسرون‏.‏ واعترض بينهما بأنه خالق كل شيء، فهو مهيمن عليه، فلا يخفى عليه شيء من أعمال المكلفين فيها وما يجزون عليها، أو بما يليه على أن كل شيء في السماوات والأرض فالله خالقه وفاتح بابه، والذين كفروا وجحدوا أن يكون الأمر كذلك أولئك هم الخاسرون، وقيل‏:‏ سأل عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله‏:‏ ‏{‏لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض‏}‏ فقال «يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك، تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير» وتأويله على هذا أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد وهي مفاتيح خير السماوات والأرض من تكلم بها من المتقين أصابه، والذين كفروا بآيات الله وكلمات توحيده وتمجيده أولئك هم الخاسرون‏.‏

‏{‏قُلْ‏}‏ لمن دعاك إلى دين آبائك ‏{‏أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونِّى أَعْبُدُ‏}‏ ‏{‏تَأْمُرُونِّىَّ‏}‏ مكي، ‏{‏تأمرونني‏}‏ على الأصل‏:‏ شامي، ‏{‏تَأْمُرُونِىَ‏}‏ مدني، وانتصب‏.‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ الله‏}‏ ب ‏{‏أَعْبُدُ‏}‏ و‏{‏تَأْمُرُونّى‏}‏ اعتراض، ومعناه أفغير الله أعبد بأمركم بعد هذا البيان ‏{‏أَيُّهَا الجاهلون‏}‏ بتوحيد الله ‏{‏وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ‏}‏ من الأنبياء عليهم السلام ‏{‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏}‏ الذي علمت قبل الشرك ‏{‏وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين‏}‏ وإنما قال ‏{‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ‏}‏ على التوحيد والموحى إليهم جماعة لأن معناه أوحي إليك لئن أشركت ليحبطنّ عملك وإلى الذين من قبلك مثله، واللام الأولى موطئة للقسم المحذوف، والثانية لام الجواب، وهذا الجواب ساد مسد الجوابين أعني جوابي القسم والشرط‏.‏ وإنما صح هذا الكلام مع علمه تعالى بأن رسله لا يشركون لأن الخطاب للنبي عليه السلام والمراد به غيره، ولأنه على سبيل الفرض، والمحالات يصح فرضها‏.‏ وقيل‏:‏ لئن طالعت غيري في السر ليحبطن ما بيني وبينك من السر ‏{‏بَلِ الله فاعبد‏}‏ رد لما أمروه من عبادة آلهتهم كأنه قال‏:‏ لا تعبد ما أمروك بعبادته بل إن عبدت فاعبد الله؛ فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضاً عنه ‏{‏وَكُنْ مِّنَ الشاكرين‏}‏ على ما أنعم به عليك من أن جعلك سيد ولد آدم ‏{‏وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ وما عظموه حق عظمته إذ دعوك إلى عبادة غيره، ولما كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حق معرفته وقدره في نفسه حق تعظيمه قيل‏:‏ وما قدروا الله حق قدره‏.‏

ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريق التخييل فقال‏:‏ ‏{‏والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ‏}‏ والمراد بهذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقية أو جهة مجاز‏.‏ والمراد بالأرض الأرضون السبع يشهد لذلك قوله ‏{‏جَمِيعاً‏}‏، وقوله ‏{‏والسماوات‏}‏ ولأن الموضع موضع تعظيم فهو مقتضٍ للمبالغة، و‏{‏الأرض‏}‏ مبتدأ و‏{‏قَبْضَتُهُ‏}‏ الخبر و‏{‏جَمِيعاً‏}‏ منصوب على الحال أي‏:‏ والأرض إذا كانت مجتمعة قبضته يوم القيامة، والقَبضة‏:‏ المرة من القبضة‏.‏ والقُبضة‏:‏ المقدار المقبوض بالكف، ويقال‏:‏ أعطني قبضة من كذا تريد معنى القبضة تسمية بالمصدر، وكلا المعنين محتمل، والمعنى والأرضون جميعاً قبضته أي ذوات قبضته بقبضهن قبضة واحدة يعني أن الأرضين مع عظمهن وبسطهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته كأنه يقبضها قبضة بكف واحدة كما تقول‏:‏ الجزور أكلة لقمان أي لا تفي إلا بأكلة فذة من أكلاته‏.‏

وإذا أريد معنى القبضة فظاهر، لأن المعنى أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة‏.‏ والمطويات من الطي الذي هو ضد النشر كما قال‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَطْوِى السماء كَطَىّ السجل لِلْكُتُبِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏ وعادة طاوي السجل أن يطويه بيمينه، وقيل‏:‏ قبضته ملكه بلا مدافع ولا منازع وبيمينه بقدرته‏.‏ وقيل‏:‏ مطويات بيمينه مفنيات بقسمه لأنه أقسم أن يفنيها ‏{‏سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ما أبعد من هذه قدرته وعظمته وما أعلاه عما يضاف إليه من الشركاء‏.‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ‏}‏ مات ‏{‏مَن فِى السماوات وَمَن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله‏}‏ أي جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وقيل‏:‏ هم حملة العرش أو رضوان والحور العين ومالك والزبانية ‏{‏ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى‏}‏ هي في محل الرفع لأن المعنى ونفخ في الصور نفخة واحدة ثم نفخ فيه نفخة أخرى، وإنما حذفت لدلالة ‏{‏أخرى‏}‏ عليها، ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان ‏{‏فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ‏}‏ يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب أو ينظرون أمر الله فيهم، ودلت الآية على أن النفخة اثنتان‏:‏ الأولى للموت والثانية للبعث، والجمهور على أنها ثلاث‏:‏ الأولى للفزع، كما قال‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور فَفَزِعَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏، والثانية للموت والثالثة للإعادة‏.‏

‏{‏وَأَشْرَقَتِ الأرض‏}‏ أضاءت ‏{‏بِنُورِ رَبِّهَا‏}‏ أي بعدله بطريق الاستعارة‏.‏ يقال للملك العادل‏:‏ أشرقت الآفاق بعدلك، وأضاءت الدنيا بقسطك‏.‏ كما يقال أظلمت البلاد بجور فلان، وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الظلم ظلمات يوم القيامة» وإضافة اسمه إلى الأرض لأنه يزينها حيث ينشر فيها عدله، وينصب فيها موازين قسطه، ويحكم بالحق بين أهلها، ولا ترى أزين للبقاع من العدل ولا أعمر لها منه، وقال الإمام أبو منصور رحمه الله‏:‏ يجوز أن يخلق الله نوراً فينور به أرض الموقف، وإضافته إليه تعالى للتخصيص كبيت الله وناقة الله ‏{‏وَوُضِعَ الكتاب‏}‏ أي صحائف الأعمال، ولكنه اكتفى باسم الجنس أو اللوح المحفوظ ‏{‏وَجَايئَ بالنبيين‏}‏ ليسألهم ربهم عن تبليغ الرسالة وما أجابهم قومهم ‏{‏والشهداء‏}‏ الحفظة‏.‏ وقيل‏:‏ هم الأبرار في كل زمان يشهدون على أهل ذلك الزمان ‏{‏وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ‏}‏ بين العباد ‏{‏بالحق‏}‏ بالعدل ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ ختم الآية بنفي الظلم كما افتتحها بإثبات العدل ‏{‏وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ‏}‏ أي جزاءه ‏{‏وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ‏}‏ من غير كتاب ولا شاهد، وقيل‏:‏ هذه الآية تفسير قوله ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏‏.‏ أي ووفيت كل نفس ما عملت من خير وشر لا يزاد في شر ولا ينقص من خير‏.‏

‏{‏وَسِيقَ الذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ‏}‏ سوقاً عنيفاً، كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل ‏{‏زُمَراً‏}‏ حال أي أفواجاً متفرقة بعضها في أثر بعض ‏{‏حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ‏}‏ بالتخفيف فيهما‏:‏ كوفي ‏{‏أبوابها‏}‏ وهي سبعة ‏{‏وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا‏}‏ أي حفظة جهنم وهم الملائكة الموكلون بتعذيب أهلها ‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ‏}‏ من بني آدم ‏{‏يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايات رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا‏}‏ أي وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة ‏{‏قَالُواْ بلى‏}‏ أتونا وتلوا علينا ‏{‏ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين‏}‏ أي ولكن وجبت علينا كلمة الله

‏{‏لأملأن جهنم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 18‏]‏ بسوء أعمالنا كما قالوا‏:‏ ‏{‏غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 106‏]‏، فذكروا عملهم الموجب لكلمة العذاب وهو الكفر والضلال‏.‏

‏{‏قِيلَ ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا‏}‏ حال مقدرة أي مقدرين الخلود ‏{‏فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين‏}‏ اللام فيه للجنس لأن ‏{‏مَثْوَى المتكبرين‏}‏ فاعل «بئس» و«بئس» فاعلها اسم معرف بلام الجنس أو مضاف إلى مثله، والمخصوص بالذم محذوف تقديره فبئس مثوى المتكبرين جهنم‏.‏ ‏{‏وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً‏}‏ المراد سوق مراكبهم، لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يكرم ويشرف من الوافدين على بعض الملوك ‏{‏حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا‏}‏ هي التي تحكى بعدها الجمل والجملة المحكية بعدها هي الشرطية إلا أن جزاءها محذوف، وإنما حذف لأنه في صفة ثواب أهل الجنة فدل بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف، وقال الزجاج‏:‏ تقديره حتى إذا جاءوها ‏{‏وَفُتِحَتْ أبوابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلام عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خالدين‏}‏ دخلوها فحذف دخولها؛ لأن في الكلام دليلاً عليه‏.‏ وقال قوم‏:‏ حتى إذا جاءوها وجاءوها وفتحت أبوابها فعندهم جاءوها محذوف، والمعنى‏:‏ حتى إذا جاءوها وقع مجيئهم مع فتح أبوابها، وقيل‏:‏ أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جنات عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 50‏]‏‏.‏ فلذلك جيء بالواو كأنه قال‏:‏ حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها طبتم من دنس المعاصي، وطهرتم من خبث الخطايا، وقال الزجاج‏:‏ أي كنتم طيبين في الدنيا ولم تكونوا خبيثين أي لم تكونوا أصحاب خبائث، وقال ابن عباس‏:‏ طاب لكم المقام، وجعل دخول الجنة سببا عن الطيب والطهارة لأنها دار الطيبين ومثوى الطاهرين قد طهر من كل دنس وطيبها من كل قذر، فلا يدخلها إلا مناسب لها موصوف بصفتها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 75‏]‏

‏{‏وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏74‏)‏ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ‏}‏ أنجزنا ما وعدنا في الدنيا من نعيم العقبى ‏{‏وَأَوْرَثَنَا الأرض‏}‏ أرض الجنة وقد أورثوها أي ملكوها وجعلوا ملوكها وأطلق تصرفهم فيها كما يشاءون تشبيهاً بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه واتساعه فيه ‏{‏نَتَبَوَّأُ‏}‏ حال ‏{‏مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ‏}‏ أي يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة فيتبوأ أي فيتخذ متبوأ ومقراً من جنته حيث يشاء ‏{‏فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين‏}‏ في الدنيا الجنة ‏{‏وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ‏}‏ حال من ‏{‏الملائكة‏}‏ ‏{‏مِنْ حَوْلِ العرش‏}‏ أي محدقين من حوله‏.‏ و«من» لابتداء الغاية أي ابتداء حفوفهم من حول العرش إلى حيث شاء الله ‏{‏يُسَبِّحُونَ‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏حَافّينَ‏}‏ ‏{‏بِحَمْدِ رَبِّهِمْ‏}‏ أي يقولون‏:‏ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أو سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وذلك للتلذذ دون التعبد لزوال التكليف ‏{‏وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ‏}‏ بين الأنبياء والأمم أو بين أهل الجنة والنار ‏{‏بالحق‏}‏ بالعدل ‏{‏وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين‏}‏ أي يقول أهل الجنة شكراً حين دخولها، وتم وعد الله لهم كما قال ‏{‏وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 10‏]‏، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر‏.‏ الحوايم السبع كلها مكية عن ابن عباس رضي الله عنهما

سورة غافر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏2‏)‏ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏3‏)‏ مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ‏(‏4‏)‏ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ‏(‏5‏)‏ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏6‏)‏ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏7‏)‏ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏8‏)‏ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏حم‏}‏ وما بعده بالإمالة‏:‏ حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد، وبني الفتح والكسر‏:‏ مدني، وغيرهم بالتفخيم، وعن ابن عباس أنه اسم الله الأعظم ‏{‏تَنزِيلُ الكتاب‏}‏ أي هذا تنزيل الكتاب ‏{‏مِنَ الله العزيز‏}‏ أي المنيع بسلطانه عن أن يتقول عليه متقول ‏{‏العليم‏}‏ بمن صدق به وكذب، فهو تهديد للمشركين وبشارة للمؤمنين ‏{‏غَافِرِ الذنب‏}‏ ساتر ذنب المؤمنين ‏{‏وَقَابِلِ التوب‏}‏ قابل توبة الراجعين ‏{‏شَدِيدِ العقاب‏}‏ على المخالفين ‏{‏ذِى الطول‏}‏ ذي الفضل على العارفين أو ذي الغنى عن الكل، وعن ابن عباس‏:‏ غافر الذنب وقابل التوب لمن قال لا إله إلا الله، شديد العقاب لمن لا يقول لا إله إلا الله‏.‏ والتوب والثوب والأوب أخوات في معنى الرجوع، والطول الغنى والفضل، فإن قلت‏:‏ كيف اختلفت هذه الصفات تعريفاً وتنكيراً والموصوف معرفة‏؟‏ قلت‏:‏ أما غافر الذنب وقابل التوب فمعرفتان لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين حتى يكونا في تقدير الانفصال فتكون إضافتهما غير حقيقية‏.‏ وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه، وأما شديد العقاب فهو في تقدير شديد عقابه فتكون نكرة، فقيل هو بدل‏.‏

وقيل‏:‏ لما وجدت هذه النكرة بين هذه المعارف آذنت بأن كلها أبدال غير أوصاف‏.‏ وإدخال الواو في ‏{‏وَقَابِلِ التوب‏}‏ لنكتة وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين‏:‏ بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات، وأن يجعلها محّاءة للذنوب كأن لم يذنب كأنه قال‏:‏ جامع المغفرة والقبول، ورُوي أن عمر رضي الله عنه افتقد رجلاً ذا بأس شديد من أهل الشام، فقيل له‏:‏ تتابع في هذا الشراب، فقال عمر لكاتبه‏:‏ اكتب من عمر إلى فلان‏:‏ سلام عليك وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو‏.‏ بسم الله الرحمن الرحيم ‏{‏حم‏}‏ إلى قوله ‏{‏إِلَيْهِ المصير‏}‏‏.‏ وختم الكتاب قال لرسوله‏:‏ لا تدفعه إليه حتى تجده صاحياً، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة‏.‏ فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول قد وعدني الله أن يغفر لي وحذرني عقابه، فلم يبرح يرددها حتى بكى، ثم نزع فأحسن النزوع وحسنت توبته‏.‏ فلما بلغ عمر أمره قال‏:‏ هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه ووقفوه وادعوا له الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعواناً للشياطين عليه‏.‏

‏{‏لآ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ صفة أيضاً ل ‏{‏ذِى الطول‏}‏ ويجوز أن يكون مستأنفاً ‏{‏إِلَيْهِ المصير‏}‏ المرجع ‏{‏مَا يجادل فِى ءايات الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ ما يخاصم فيها بالتكذيب بها والإنكار لها، وقد دل على ذلك في قوله ‏{‏وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 5‏]‏ فأما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها واستنباط معانيها ورد أهل الزيغ بها فأعظم جهاد في سبيل الله ‏{‏فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى البلاد‏}‏ بالتجارات النافقة والمكاسب المربحة سالمين غانمين فإن عاقبة أمرهم إلى العذاب، ثم بين كيف ذلك فأعلم أن الأمم الذين كذبت قبلهم أهلكت فقال ‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ‏}‏ نوحاً ‏{‏والأحزاب‏}‏ أي الذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم وهم عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ‏{‏مِّن بَعْدِهِمْ‏}‏ من بعد قوم نوح ‏{‏وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ‏}‏ من هذه الأمم التي هي قوم نوح والأحزاب ‏{‏بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ‏}‏ ليتمكنوا منه فيقتلوه‏.‏

والأخيذ‏:‏ الأسير ‏{‏وجادلوا بالباطل‏}‏ بالكفر ‏{‏لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق‏}‏ ليبطلوا به الإيمان ‏{‏فَأَخَذَتْهُمْ‏}‏ مظهر‏:‏ مكي وحفص يعني أنهم قصدوا أخذه فجعلت جزاءهم على إرادة أخذ الرسل أن أخذتهم فعاقبتهم ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ‏}‏ وبالياء‏:‏ يعقوب‏.‏ أي فإنكم تمرون على بلادهم فتعاينون أثر ذلك، وهذا تقرير فيه معنى التعجيب ‏{‏وكذلك حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الذين كَفَرُواْ‏}‏ ‏{‏كلمات رَبكَ‏}‏ مدني وشامي ‏{‏أَنَّهُمْ أصحاب النار‏}‏ في محل الرفع بدل من ‏{‏كلمة ربك‏}‏ أي مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار، ومعناه كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة‏.‏ أو في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل و‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ قريش، ومعناه كما وجب إهلاك أولئك الأمم كذلك وجب إهلاك هؤلاء؛ لأن علة واحدة تجمعهم أنهم من أصحاب النار، ويلزم الوقف على النار‏.‏ لأنه لو وصل لصار

‏{‏الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ‏}‏ يعني حاملي العرش والحافين حوله وهم الكروبيون سادة الملائكة صفة لأصحاب النار وفساده ظاهر‏.‏ رُوي أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورءوسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وفي الحديث ‏"‏ إن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلاً لهم على سائر الملائكة ‏"‏ وقيل‏:‏ حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين، ومن ورائهم سبعون ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو «يسبح بما لا يسبح به الآخر»‏.‏ ‏{‏يُسَبِّحُونَ‏}‏ خبر المبتدأ وهو ‏{‏الذين‏}‏ ‏{‏بِحَمْدِ رَبِّهِمْ‏}‏ أي مع حمده إذ الباء تدل على أن تسبيحهم بالحمدلة ‏{‏وَيُؤْمِنُونَ بِهِ‏}‏ وفائدته مع علمنا بأن حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمده مؤمنون إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه كما وصف الأنبياء في غير موضع بالصلاح لذلك، وكما عقب أعمال الخير بقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 17‏]‏‏.‏ فأبان بذلك فضل الإيمان، وقد روعي التناسب في قوله‏:‏ ‏{‏وَيُؤْمِنُونَ بِهِ‏}‏‏.‏

‏{‏وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ ويؤمنون به ويستغفرون لمن في مثل حالهم، وفيه دليل على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة والشفقة، وإن تباعدت الأجناس والأماكن ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ أي يقولون ربنا وهذا المحذوف حال ‏{‏وَسِعْتَ كُلَّ شَئ رَّحْمَةً وَعِلْماً‏}‏ والرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى، إذ الأصل وسع كل شيء رحمتك وعلمك، ولكن أزيل الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم وأخرجا منصوبين على التمييز مبالغة في وصفه بالرحمة والعلم ‏{‏فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ‏}‏ أي للذين علمت منهم التوبة لتناسب ذكر الرحمة والعلم ‏{‏واتبعوا سَبِيلَكَ‏}‏ أي طريق الهدى الذي دعوت إليه ‏{‏وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآئِهِمْ‏}‏ «من» في موضع نصب عطف على «هم» في ‏{‏وَأَدْخِلْهُمْ‏}‏ أو في ‏{‏وَعَدْتَّهُمْ‏}‏ والمعنى وعدتهم ووعدت من صلح من آبائهم ‏{‏وأزواجهم وذرياتهم إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم‏}‏ أي الملك الذي لا يغلب، وأنت مع ملكك وعزتك لا تفعل شيئاً خالياً من الحكمة وموجب حكمتك أن تفي بوعدك ‏{‏وَقِهِمُ السيئات‏}‏ أي جزاء السيئات وهو عذاب النار ‏{‏وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ‏}‏ أي رفع العذاب ‏{‏هُوَ الفوز العظيم‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ‏}‏ أي يوم القيامة إذا دخلوا النار ومقتوا أنفسهم فيناديهم خزنة النار ‏{‏لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ أي لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم، فاستغنى بذكرها مرة، والمقت أشد البغض، وانتصاب ‏{‏إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان‏}‏ بالمقت الأول عند الزمخشري، والمعنى أنه يقال لهم يوم القيامة‏:‏ كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر أشد مما تمقتونهن اليوم، وأنتم في النار إذا وقعتم فيها باتباعكم هواهن، وقيل‏:‏ معناه لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض كقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 25‏]‏، و‏{‏إِذْ تَدْعُونَ‏}‏ تعليل، وقال جامع العلوم وغيره‏:‏ «إذ» منصوب بفعل مضمر دل عليه ‏{‏لَمَقْتُ الله‏}‏ أي يمقتهم الله حين دعوا إلى الإيمان فكفروا، ولا ينتصب بالمقت الأول لأن قوله ‏{‏لَمَقْتُ الله‏}‏ مبتدأ وهو مصدر وخبره ‏{‏أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏، فلا يعمل في ‏{‏إِذْ تَدْعُونَ‏}‏؛ لأن المصدر إذا أخبر عنه لم يجز أن يتعلق به شيء يكون في صلته لأن الإخبار عنه يؤذن بتمامه، وما يتعلق به يؤذن بنقصانه، ولا بالثاني لاختلاف الزمانين، وهذا لأنهم مقتوا أنفسهم في النار وقد دعوا إلى الإيمان في الدنيا ‏{‏فَتَكْفُرُونَ‏}‏ فتصرون على الكفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 21‏]‏

‏{‏قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏11‏)‏ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ‏(‏12‏)‏ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ‏(‏13‏)‏ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ‏(‏15‏)‏ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ‏(‏16‏)‏ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏17‏)‏ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ‏(‏18‏)‏ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ‏(‏19‏)‏ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏20‏)‏ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين‏}‏ أي إماتتين وإحياءتين أو موتتين وحياتين، وأراد بالإماتتين خلقهم أمواتاً أولاً وإماتتهم عند انقضاء آجالهم، وصح أن يسمى خلقهم أمواتاً إماتة، كما صح أن يقال‏:‏ سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل، وليس ثمة نقل من كبر إلى صغر، ولا من صغر إلى كبر، والسبب فيه أن الصغر والكبر جائزان على المصنوع الواحد، فإذا اختار الصانع أحد الجائزين فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر، فجعل صرفه عنه كنقله منه‏.‏ وبالإحياءتين‏:‏ الإحياءة الأولى في الدنيا، والإحياءة الثانية البعث، ويدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ الموتة الأولى في الدنيا، والثانية في القبر بعد الإحياء للسؤال، والإحياء الأول إحياؤه في القبر بعد موته للسؤال، والثاني للبعث ‏{‏فاعترفنا بِذُنُوبِنَا‏}‏ لما رأوا الإماتة والإحياء قد تكررا عليهم علموا أن الله قادر على الإعادة كما هو قادر على الإنشاء، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم ‏{‏فَهَلْ إلى خُرُوجٍ‏}‏ من النار‏.‏ أي إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء لنتخلص ‏{‏مِّن سَبِيلٍ‏}‏ قط أم اليأس واقع دون ذلك فلا خروج ولا سبيل إليه، وهذا كلام من غلب عليه اليأس وإنما يقولون ذلك تحيراً، ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك وهو قوله ‏{‏ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ‏}‏ أي ذلكم الذي أنتم فيه وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بسبب كفركم بتوحيد الله وإيمانكم بالإشراك به ‏{‏فالحكم للَّهِ‏}‏ حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد ‏{‏العلى‏}‏ شأنه، فلا يرد قضاؤه ‏{‏الكبير‏}‏ العظيم سلطانه، فلا يحد جزاؤه، وقيل‏:‏ كأن الحرورية أخذوا قولهم‏:‏ لا حكم إلا لله من هذا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لما خرج أهل حروراء قال علي رضي الله عنه‏:‏ من هؤلاء‏؟‏ قيل‏:‏ المحكمون‏.‏ أي يقولون‏:‏ لا حكم إلا لله، فقال علي رضي الله عنه‏:‏ كلمة حق أريد بها باطل‏.‏

‏{‏هُوَ الذى يُرِيكُمْ ءاياته‏}‏ من الريح والسحاب والرعد والبرق والصواعق ونحوها ‏{‏وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السماء‏}‏ وبالتخفيف‏:‏ مكي وبصري ‏{‏رِزْقاً‏}‏ مطراً؛ لأنه سبب الرزق ‏{‏وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ‏}‏ وما يتعظ وما يعتبر بآيات الله إلا من يتوب من الشرك ويرجع إلى الله، فإن المعاند لا يتذكر ولا يتعظ، ثم قال للمنيبين‏:‏ ‏{‏فادعوا الله‏}‏ فاعبدوه ‏{‏مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏ من الشرك ‏{‏وَلَوْ كَرِهَ الكافرون‏}‏ وإن غاظ ذلك أعداءكم ممن ليس على دينكم ‏{‏رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش يُلْقِى الروح‏}‏ ثلاثة أخبار لقوله هو مرتبة على قوله‏:‏ ‏{‏الذى يريكم‏}‏‏.‏ أو أخبار مبتدأ محذوف، ومعنى رفيع الدرجات رافع السماوات بعضها فوق بعض، أو رافع درجات عباده في الدنيا بالمنزلة، أو رافع منازلهم في الجنة‏.‏

وذو العرش مالك عرشه الذي فوق السماوات خلقه مطافاً للملائكة إظهاراً لعظمته مع استغنائه في مملكته، والروح جبريل عليه السلام، أو الوحي الذي تحيا به القلوب ‏{‏مِنْ أَمْرِهِ‏}‏ من أجل أمره أو بأمره ‏{‏على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ‏}‏ أي الله أو الملقى عليه وهو النبي عليه السلام ويدل عليه قراءة يعقوب ‏{‏لّتُنذِرَ‏}‏ ‏{‏يَوْمَ التلاق‏}‏ يوم القيامة لأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض والأولون والآخرون‏.‏ ‏{‏التلاقي‏}‏‏:‏ مكي ويعقوب ‏{‏يَوْمَ هُم بارزون‏}‏ ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء ‏{‏لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَئ‏}‏ أي من أعمالهم وأحوالهم ‏{‏لّمَنِ الملك اليوم‏}‏ أي يقول الله تعالى ذلك حين لا أحد يجيبه، ثم يجيب نفسه بقوله ‏{‏للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ‏}‏ أي الذي قهر الخلق بالموت، وينتصب ‏{‏اليوم‏}‏ بمدلول ‏{‏لِمَنْ‏}‏ أي لمن ثبت الملك في هذا اليوم، وقيل‏:‏ ينادي منادٍ فيقول‏:‏ لمن الملك اليوم فيجيبه أهل المحشر‏:‏ لله الواحد القهار‏.‏

‏{‏اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ اليوم إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب‏}‏ لما قرر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم عدد نتائج ذلك وهي أن كل نفس تجزى بما كسبت عملت في الدنيا من خير وشر، وأن الظلم مأمون منه لأنه ليس بظلام للعبيد، وأن الحساب لا يبطيء لأنه لا يشغله حساب عن حساب، فيحاسب الخلق كله في وقت واحد وهو أسرع الحاسبين ‏{‏وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزفة‏}‏ أي القيامة سميت بها لأزوفها أي لقربها، ويبدل من يوم الآزفة ‏{‏إِذِ القلوب لَدَى الحناجر‏}‏ أي التراقي يعني ترتفع قلوبهم عن مقارها فتلصق بحناجرهم فلا هي تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا ويتروّحوا ‏{‏كاظمين‏}‏ ممسكين بحناجرهم‏.‏ من كظم القربة شد رأسها، وهو حال من القلوب محمول على أصحابها، أو إنما جمع الكاظم جمع السلامة لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء ‏{‏مَا للظالمين‏}‏ الكافرين ‏{‏مِنْ حَمِيمٍ‏}‏ محب مشفق ‏{‏وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ‏}‏ أي يشفع وهو مجاز عن الطاعة، لأن الطاعة حقيقة لا تكون إلا لمن فوقك، والمراد نفي الشفاعة والطاعة كما في قوله‏:‏

ولا ترى الضب بها ينجحر *** يريد نفي الضب وانجحاره، وإن احتمل اللفظ انتفاء الطاعة دون الشفاعة، فعن الحسن‏:‏ والله ما يكون لهم شفيع البتة‏.‏ ‏{‏يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين‏}‏ مصدر بمعنى الخيانة كالعافية بمعنى المعافاة والمراد استراق النظر إلى ما لا يحل ‏{‏وَمَا تُخْفِى الصدور‏}‏ وما تسره من أمانة وخيانة، وقيل‏:‏ هو أن ينظر إلى أجنبية بشهوة مسارقة، ثم يتفكر بقلبه في جمالها ولا يعلم بنظرته وفكرته من بحضرته، والله يعلم ذلك كله ويعلم خائنة الأعين خبر من أخبار هو في قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى يُرِيكُمْ ءاياته‏}‏‏.‏

مثل ‏{‏يُلْقِى الروح‏}‏ ولكن يلقي الروح قد علل بقوله‏:‏ ‏{‏لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق‏}‏ ثم استطرد ذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله ‏{‏وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ‏}‏ فبعد لذلك عن أخواته ‏{‏والله يَقْضِى بالحق‏}‏ أي والذي هذه صفاته لا يحكم إلا بالعدل ‏{‏والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَئ‏}‏ وآلهتهم لا يقضون بشيء، وهذا تهكم بهم لأن ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه يقضي أو لا يقضي‏.‏ ‏{‏تَدْعُونَ‏}‏ نافع ‏{‏إِنَّ الله هُوَ السميع البصير‏}‏ تقرير لقوله ‏{‏يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِى الصدور‏}‏، ووعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون ويبصر ما يعملون، وأنه يعاقبهم عليه، وتعريض بما يدعون من دونه وأنها لا تسمع ولا تبصر ‏{‏أَوَ لَمْ يَسِيروُاْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ أي آخر أمر الذين كذبوا الرسل من قبلهم ‏{‏كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً‏}‏ «هم» فصل، وحقه أن يقع بين معرفتين إلا أن أشد منهم ضارع المعرفة في أنه لا تدخله الألف واللام، فأجري مجراه‏.‏ ‏{‏مّنكُمْ‏}‏‏:‏ شامي‏.‏ ‏{‏وَءَاثَاراً فِى الأرض‏}‏ أي حصوناً وقصوراً ‏{‏فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ عاقبهم بسبب ذنوبهم ‏{‏وَمَا كَانَ لَهُم مّنَ الله مِن وَاقٍ‏}‏ ولم يكن لهم شيء يقيهم من عذاب الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 34‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏22‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏23‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ‏(‏24‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ‏(‏26‏)‏ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏27‏)‏ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ‏(‏28‏)‏ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏29‏)‏ وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ‏(‏30‏)‏ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ‏(‏31‏)‏ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ‏(‏32‏)‏ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ‏}‏ أي الأخذ بسبب أنهم ‏{‏كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِىٌّ‏}‏ قادر على كل شيء ‏{‏شَدِيدُ العقاب‏}‏ إذا عاقب‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا‏}‏ التسع ‏{‏وسلطان مُّبِينٍ‏}‏ وحجة ظاهرة ‏{‏إلى فِرْعَوْنَ وهامان وقارون فَقَالُواْ‏}‏ هو ‏{‏ساحر كَذَّابٌ‏}‏ فسموا السلطان المبين سحراً وكذباً ‏{‏فَلَمَّا جَآءَهُمْ بالحق‏}‏ بالنبوة ‏{‏مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقتلوا أَبْنَآءَ الذين ءَامَنُواْ مَعَهُ‏}‏ أي أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولاً ‏{‏واستحيوا نِسَآءَهُمْ‏}‏ للخدمة ‏{‏وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِى ضلال‏}‏ ضياع يعني أنهم باشروا قتلهم أولاً فما أغنى عنهم‏!‏، ونفذ قضاء الله بإظهار من خافوه فما يغني عنهم هذا القتل الثاني، وكان فرعون قد كف عن قتل الولدان، فلما بعث موسى عليه السلام وأحس بأنه قد وقع أعاده عليهم غيظاً وظناً منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى عليه السلام، وما علم أن كيده ضائع في الكرتين جميعاً ‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ‏}‏ لملئه ‏{‏ذَرُونِى أَقْتُلْ موسى‏}‏ كان إذا همّ بقتله كفوه بقولهم‏:‏ ليس بالذي تخافه وهو أقل من ذلك، وما هو إلا ساحر، وإذا قتلته أدخلت الشبهة على الناس واعتقدوا أنك عجزت عن معارضته بالحجة، والظاهر أن فرعون قد استيقن أنه نبي وأن ما جاء به آيات وما هو بسحر، ولكن كان فيه خب وكان قتالاً سفاكاً للدماء في أهون شيء، فكيف لا يقتل من أحس بأنه هو الذي يهدم ملكه‏؟‏، ولكن كان يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك، وقوله ‏{‏وَلْيَدْعُ رَبَّهُ‏}‏ شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه، وكان قوله‏:‏ ‏{‏ذَرُونِى أَقْتُلْ موسى‏}‏ تمويهاً على قومه وإيهاماً أنهم هم الذين يكفونه وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع ‏{‏إِنِّى أَخَافُ‏}‏ إن لم أقتله ‏{‏أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ‏}‏ أن يغير ما أنتم عليه‏.‏ وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام ‏{‏أَوْ أَن يُظْهِرَ‏}‏ موسى ‏{‏فِى الأرض الفساد‏}‏ بضم الياء ونصب الدال‏:‏ مدني وبصري وحفص، وغيرهم بفتح الياء ورفع الدال، والأول أولى لموافقة ‏{‏يبدل‏}‏‏.‏ والفساد في الأرض التقاتل والتهايج الذي يذهب معه الأمن، وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش ويهلك الناس قتلاً وضياعاً كأنه قال‏:‏ إني أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه أو يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من الفتن بسببه، وقرأ غير أهل الكوفة ‏{‏وَأَنْ‏}‏، ومعناه إني أخاف فساد دينكم ودنياكم معاً‏.‏ ‏{‏وَقَالَ مُوسَى‏}‏ لما سمع بما أجراه فرعون من حديث قتله لقومه ‏{‏إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب‏}‏ وفي قوله ‏{‏وَرَبِّكُمْ‏}‏ بعث لهم على أن يقتدوا به فيعوذوا بالله عياذه، ويعتصموا بالتوكل عليه اعتصامه، وقال ‏{‏مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ‏}‏ لتشمل استعاذته فرعون وغيره من الجبابرة، وليكون على طريقة التعريض فيكون أبلغ، وأراد بالتكبر الاستكبارعن الاذعان للحق وهو أقبح استكبار، وأدل على دناءة صاحبه وعلى فرط ظلمه، وقال‏:‏ ‏{‏لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب‏}‏‏:‏ لأنه إذا اجتمع في الرجل التكبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة فقد استكمل أسباب القسوة والجراءة على الله وعباده، ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها، وعذت ولذت أخوان‏.‏

‏{‏وعت‏}‏ بالإدغام‏:‏ أبو عمرو وحمزة وعلي‏.‏

‏{‏وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمانه‏}‏ قيل‏:‏ كان قبطياً ابن عم لفرعون آمن بموسى سراً، و‏{‏مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ‏}‏ صفة ل ‏{‏رَجُلٌ‏}‏، وقيل‏:‏ كان إسرائيلياً ومن آل فرعون صلة ليكتم أي يكتم إيمانه من آل فرعون واسمه سمعان أو حبيب أو خربيل أو حزبيل، والظاهر الأول ‏{‏أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ‏}‏ لأن يقول وهذا إنكار منه عظيم كأنه قيل‏:‏ أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة وما لكم علة في ارتكابها إلا كلمة الحق‏؟‏، وهي قوله ‏{‏رَبِّىَ الله‏}‏ وهو ربكم أيضاً لا ربه وحده ‏{‏وَقَدْ جَآءَكُمْ‏}‏ الجملة حال ‏{‏بالبينات مِن رَّبِّكُمْ‏}‏ يعني أنه لم يحضر لتصحيح قوله ببينة واحدة ولكن ببينات من عند من نسب إليه الربوبية وهو استدراج لهم إلى الاعتراف به ‏{‏وَإِن يَكُ كاذبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صادقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذى يَعِدُكُمْ‏}‏ احتج عليهم بطريق التقسيم فإنه لا يخلو من أن يكون كاذباً أو صادقاً، فإن يك كاذباً فعليه وبال كذبه ولا يتخطاه، وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم من العذاب، ولم يقل «كل الذي يعدكم» مع أنه وعد من نبي صادق القول مداراة لهم وسلوكاً لطريق الإنصاف فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم له وليس فيه نفي إصابة الكل، فكأنه قال لهم‏:‏ أقل ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض ما يعدكم وهو العذاب العاجل وفي ذلك هلاككم، وكان وعدهم عذاب الدنيا والآخرة، وتقديم الكاذب على الصادق من هذا القبيل أيضاً، وتفسير البعض بالكل مزيف ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ‏}‏ مجاوز للحد ‏{‏كَذَّابٌ‏}‏ في ادعائه، وهذا أيضاً من باب المجاملة، والمعنى أنه إن كان مسرفاً كذاباً خذله الله وأهلكه فتتخلصون منه، أو لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله بالنبوة ولما عضده بالبينات، وقيل‏:‏ أو هم أنه عنى بالمسرف موسى وهو يعني به فرعون‏.‏

‏{‏ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين‏}‏ عالين وهو حال من «كم» في ‏{‏لَكُمْ‏}‏ ‏{‏فِى الأرض‏}‏ في أرض مصر ‏{‏فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا‏}‏ يعني أن لكم ملك مصر، وقد علوتم الناس وقهرتموهم، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم، ولا تتعرضوا لبأس الله أي عذابه، فإنه لا طاقة لكم به إن جاءكم ولا يمنعكم منه أحد، وقال ‏{‏يَنصُرُنَا‏}‏ و‏{‏جَاءنَا‏}‏ لأنه منهم في القرابة، وليعلمهم بأن الذي ينصحهم به هو مساهم لهم فيه ‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى‏}‏ أي ما أشير عليكم برأي إلا بما أرى من قتله يعني لا أستصوب إلا قتله، وهذا الذي تقولونه غير صواب ‏{‏وَمَا أَهْدِيكُمْ‏}‏ بهذا الرأي ‏{‏إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد‏}‏ طريق الصواب والصلاح، أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب ولا أدخر منه شيئاً ولا أسر عنكم خلاف ما أظهر‏.‏

يعني أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول، وقد كذب فقد كان مستشعراً للخوف الشديد من جهة موسى عليه السلام، ولكنه كان يتجلد، ولولا استشعاره لم يستشر أحداً ولم يقف الأمر على الإشارة‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذى ءَامَنَ ياقوم إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأحزاب‏}‏ أي مثل أيامهم‏:‏ لأنه لما أضافه إلى الأحزاب وفسرهم بقوله ‏{‏مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ‏}‏ ولم يلتبس أن كل حزب منهم كان له يوم دمار اقتصر على الواحد من الجمع، ودأب هؤلاء دءوبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي وكون ذلك دائباً دائماً منهم لا يفترون عنه، ولا بد من حذف مضاف، أي مثل جزاء دأبهم، وانتصاب ‏{‏مثل‏}‏ الثاني بأنه عطف بيان ل ‏{‏مثل‏}‏ الأول ‏{‏وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ‏}‏ أي وما يريد الله أن يظلم عباده فيعذبهم بغير ذنب أو يزيد على قدر ما يستحقون من العذاب‏.‏ يعني أن تدميرهم كان عدلاً لأنهم استحقوه بأعمالهم، وهو أبلغ من قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏ حيث جعل المنفي إرادة ظلم منكّر ومن بعد عن إرادة ظلم ما لعباده كان عن الظلم أبعد وأبعد، وتفسير المعتزلة بأنه لا يريد لهم أن يظلموا بعيد، لأن أهل اللغة قالوا‏:‏ إذا قال الرجل لآخر «لا أريد ظلماً لك» معناه لا أريد أن أظلمك، وهذا تخويف بعذاب الدنيا‏.‏

ثم خوفهم من عذاب الآخرة بقوله ‏{‏وياقوم إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد‏}‏ أي يوم القيامة‏.‏ ‏{‏التنادي‏}‏ مكي ويعقوب في الحالين وإثبات الياء هو الأصل وحذفها حسن لأن الكسرة تدل على الياء وآخر هذه الآي على الدال، وهو ما حكى الله تعالى في سورة الأعراف‏:‏ ‏{‏وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب النار‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 44‏]‏‏.‏ ‏{‏ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 50‏]‏‏.‏ ‏{‏ونادى أصحاب الأعراف‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ ينادي منادٍ‏:‏ ألا إن فلانا سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، ألا إن فلاناً شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً ‏{‏يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ‏}‏ منحرفين عن موقف الحساب إلى النار ‏{‏مَالَكُمْ مِنَ الله‏}‏ من عذاب الله ‏{‏مِنْ عَاصِمٍ‏}‏ مانع ودافع ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏ مرشد ‏{‏وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات‏}‏ هو يوسف بن يعقوب، وقيل‏:‏ يوسف بن أفراييم بن يوسف بن يعقوب أقام فيهم نبياً عشرين سنة، وقيل‏:‏ إن فرعون موسى هو فرعون يوسف إلى زمنه‏.‏

وقيل‏:‏ هو فرعون آخر وبخهم بأن يوسف أتاكم من قبل موسى بالمعجزات ‏{‏فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ‏}‏ فشككتم فيها ولم تزالوا شاكين ‏{‏حتى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً‏}‏ حكماً من عند أنفسكم من غير برهان‏.‏ أي أقمتم على كفركم وظننتم أنه لا يجدد عليكم إيجاب الحجة ‏{‏كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ‏}‏ أي مثل هذا الإضلال يضل الله كل مسرف في عصيانه مرتاب شاك في دينه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 51‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ‏(‏35‏)‏ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ‏(‏36‏)‏ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ‏(‏37‏)‏ وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏38‏)‏ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ‏(‏39‏)‏ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏40‏)‏ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ‏(‏41‏)‏ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ‏(‏42‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏43‏)‏ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏44‏)‏ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ‏(‏45‏)‏ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ‏(‏46‏)‏ وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ‏(‏47‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ‏(‏48‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ‏(‏49‏)‏ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏50‏)‏ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يجادلون‏}‏ بدل من ‏{‏مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ‏}‏ وجاز إبداله منه وهو جمع لأنه لا يريد مسرفاً واحداً بل كل مسرف ‏{‏فِى ءايات الله‏}‏ في دفعها وإبطالها ‏{‏بِغَيْرِ سلطان‏}‏ حجة ‏{‏أتاهم كَبُرَ مَقْتاً‏}‏ أي عظم بغضاً، وفاعل ‏{‏كَبُرَ‏}‏ ضمير ‏{‏مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ‏}‏ وهو جمع معنى وموحد لفظاً فحمل البدل على معناه والضمير الراجع إليه على لفظه، ويجوز أن يرفع ‏{‏الذين‏}‏ على الابتداء، ولا بد في هذا الوجه من حذف مضاف يرجع إليه الضمير في ‏{‏كَبُرَ‏}‏ تقديره جدال الذين يجادلون كبر مقتاً ‏{‏عِندَ الله وَعِندَ الذين ءَامَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ‏}‏‏.‏ ‏{‏قَلْبٍ‏}‏ بالتنوين‏:‏ أبو عمرو‏.‏ وإنما وصف القلب بالتكبر والتجبر لأنه منبعهما كما تقول‏:‏ سمعت الأذن وهو كقوله‏:‏ ‏{‏فإنه آثم قلبه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏ وإن كان الآثم هو الجملة‏.‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ‏}‏ تمويهاً على قومه أو جهلاً منه ‏{‏ياهامان ابن لِى صَرْحاً‏}‏ أي قصراً‏.‏ وقيل الصرح‏:‏ البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد، ومنه يقال‏:‏ صرح الشيء إذا ظهر ‏{‏لَّعَلِّى‏}‏ وبفتح الياء‏:‏ حجازي وشامي وأبو عمرو ‏{‏أَبْلُغُ الأسباب‏}‏ ثم أبدل منها تفخيماً لشأنها وإبانة أنه يقصد أمراً عظيماً ‏{‏أسباب السماوات‏}‏ أي طرقها وأبوابها وما يؤدي إليها وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب إليه كالرشاء ونحوه ‏{‏فَأَطَّلِعَ‏}‏ بالنصب‏:‏ حفص على جواب الترجي تشبيهاً للترجي بالتمني‏.‏ وغيره بالرفع عطفاً على ‏{‏أبلغ‏}‏ ‏{‏إلى إله موسى‏}‏ والمعنى فأنظر إليه ‏{‏وَإِنِّى لأَظُنُّهُ‏}‏ أي موسى ‏{‏كاذبا‏}‏ في قوله له إله غيري ‏{‏وكذلك‏}‏ ومثل ذلك التزيين وذلك الصد ‏{‏زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءَ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السبيل‏}‏ المستقيم‏.‏ وبفتح الصاد‏:‏ كوفي ويعقوب أي غيره صداً أو هو بنفسه صدوداً‏.‏ والمزين الشيطان بوسوسته كقوله‏:‏ ‏{‏وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 24‏]‏‏.‏ أو الله تعالى، ومثله‏:‏ ‏{‏زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم فَهُمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 4‏]‏ ‏{‏وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ‏}‏ خسران وهلاك‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذى ءَامَنَ ياقوم اتبعون‏}‏ ‏{‏اتبعوني‏}‏ في الحالين‏:‏ مكي ويعقوب وسهل‏.‏ ‏{‏أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد‏}‏ وهو نقيض الغي، وفيه تعريض شبيه بالتصريح أن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي‏.‏ أجمل أولاً، ثم فسر فافتتح بذم الدنيا وتصغير شأنها بقوله ‏{‏ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا متاع‏}‏ تمتع يسير، فالإخلاد إليها أصل الشر ومنبع الفتن وثنى بتعظيم الآخرة وبين أنها هي الوطن والمستقر بقوله ‏{‏وَإِنَّ الآخرة هِىَ دَارُ القرار‏}‏ ثم ذكر الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منهما ليثبط عما يتلف وينشط لما يزلف بقوله‏:‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ سَيَّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صالحا مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏{‏يُدخلون‏}‏ مكي وبصري ويزيد وأبو بكر، ثم وازن بين الدعوتين دعوته إلى دين الله الذي ثمرته الجنات، ودعوتهم إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار بقوله ‏{‏وياقوم مَالِيَ‏}‏ وبفتح الياء‏:‏ حجازي وأبو عمرو ‏{‏أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاوة‏}‏ أي الجنة ‏{‏وَتَدْعُونَنِى إِلَى النار تَدْعُونَنِى لأكْفُرَ بالله‏}‏ هو بدل من ‏{‏تَدْعُونَنِى‏}‏ الأول يقال‏:‏ دعاه إلى كذا ودعاه له كما يقال هداه إلى الطريق وهداه له ‏{‏وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ‏}‏ أي بربوبيته والمراد بنفي العلم نفي المعلوم كأنه قال‏:‏ وأشرك به ما ليس بإله وما ليس بإله كيف يصح أن يعلم إلهاً ‏{‏وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار‏}‏ وهو الله سبحانه وتعالى، وتكرير النداء لزيادة التنبيه لهم والإيقاظ عن سنة الغفلة، وفيه أنهم قومه وأنه من آل فرعون‏.‏

وجيء بالواو في النداء الثالث دون الثاني، لأن الثاني داخل على كلام هو بيان للمجمل وتفسير له بخلاف الثالث‏.‏

‏{‏لاَ جَرَمَ‏}‏ عند البصريين لا رد لما دعاه إليه قومه، و«جرم» فعل بمعنى حق و«أن» مع ما في حيزه فاعله أي حق ووجب بطلان دعوته ‏{‏أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدنيا وَلاَ فِى الآخرة‏}‏ معناه أن تدعونني إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط أي من حق المعبود بالحق أن يدعو العباد إلى طاعته، وما تدعون إليه وإلى عبادته لا يدعو هو إلى ذلك ولا يدعي الربوبية، أو معناه ليس له استجابة دعوة في الدنيا ولا في الآخرة أو دعوة مستجابة، جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ولا منفعة كلا دعوة، أو سميت الاستجابة باسم الدعوة كما سمي الفعل المجازي عليه بالجزاء في قوله‏:‏ «كما تدين تدان» ‏{‏وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى الله‏}‏ وأن رجوعنا إليه ‏{‏وَأَنَّ المسرفين‏}‏ وأن المشركين ‏{‏هُمْ أصحاب النار فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ‏}‏ أي من النصيحة عند نزول العذاب ‏{‏وَأُفَوِّضُ‏}‏ وأسلم ‏{‏أَمْرِى‏}‏ وبفتح الياء‏:‏ مدني وأبو عمرو ‏{‏إِلَى الله‏}‏ لأنهم توعدوه ‏{‏إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد‏}‏ بأعمالهم ومالهم ‏{‏فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ‏}‏ شدائد مكرهم وما هموا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم، وقيل‏:‏ إنه خرج من عندهم هارباً إلى جبل فبعث قريباً من ألف في طلبه فمنهم من أكلته السباع ومن رجع منهم صلبه فرعون ‏{‏وَحَاقَ‏}‏ ونزل‏.‏

‏{‏بِأَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العذاب النار‏}‏ بدل من ‏{‏سُوءُ العذاب‏}‏ أو خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل‏:‏ ما سوء العذاب‏؟‏ فقيل‏:‏ هو النار، أو مبتدأ خبره ‏{‏يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا‏}‏ وعرضهم عليها إحراقهم بها يقال‏:‏ عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به‏.‏

‏{‏غُدُوّاً وَعَشِيّاً‏}‏ أي في هذين الوقتين يعذبون بالنار، وفيما بين ذلك إما أن يعذبوا بجنس آخر أو ينفس عنهم، ويجوز أن يكون غدواً وعشياً عبارة عن الدوام هذا في الدنيا ‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة‏}‏ يقال لخزنة جهنم ‏{‏أَدْخلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ‏}‏ من الإدخال‏:‏ مدني وحمزة وعلي وحفص وخلف ويعقوب، وغيرهم ‏{‏أدخلوا‏}‏ أي يقال لهم ادخلوا يا آل فرعون ‏{‏أَشَدَّ العذاب‏}‏ أي عذاب جهنم، وهذه الآية دليل على عذاب القبر‏.‏ ‏{‏وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ‏}‏ واذكر وقت تخاصمهم ‏{‏فِى النار فَيَقُولُ الضعفاؤا لِلَّذِينَ استكبروا‏}‏ يعني الرؤساء ‏{‏إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا‏}‏ تباعاً كخدم في جمع خادم ‏{‏فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ‏}‏ دافعون ‏{‏عَنَّا نَصِيباً‏}‏ جزاءً ‏{‏مِّنَ النار قَالَ الذين استكبروا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا‏}‏ التنوين عوض من المضاف إليه أي إنا كلنا فيها لا يغني أحد عن أحد ‏{‏إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد‏}‏ قضى بينهم بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ‏{‏وَقَالَ الذين فِى النار لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ‏}‏ للقُوَّام بتعذيب أهلها‏.‏ وإنما لم يقل «لخزنتها» لأن في ذكر جهنم تهويلاً وتفظيعاً، ويحتمل أن جهنم هي أبعد النار قعراً من قولهم «بئر جهنّام» بعيدة القعر وفيها أعتى الكفار وأطغاهم، فلعل الملائكة الموكلين بعذاب أولئك أجوب دعوة لزيادة قربهم من الله تعالى فلهذا تعمدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم ‏{‏ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً‏}‏ بقدر يوم من الدنيا ‏{‏مِّنَ العذاب قَالُواْ‏}‏ أي الخزنة توبيخاً لهم بعد مدة طويلة ‏{‏أَوَلَمْ تَكُ‏}‏ أي ولم تك قصة، وقوله ‏{‏تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم‏}‏ تفسير للقصة ‏{‏بالبينات‏}‏ بالمعجزات ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي الكفار ‏{‏بلى قَالُواْ‏}‏ أي الخزنة تهكماً بهم ‏{‏فادعوا‏}‏ أنتم ولا استجابة لدعائكم ‏{‏وَمَا دعاؤا الكافرين إِلاَّ فِى ضلال‏}‏ بطلان وهو من قول الله تعالى، ويحتمل أن يكون من كلام الخزنة‏.‏

‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءَامَنُواْ فِى الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد‏}‏ أي في الدنيا والآخرة يعني أنه يغلبهم في الدارين جميعاً بالحجة والظفر على مخالفيهم وإن غلبوا في الدنيا في بعض الأحايين امتحاناً من الله والعاقبة لهم، ويتيح الله من يقتص من أعدائهم ولو بعد حين‏.‏ و‏{‏يوم‏}‏ نصب محمول على موضع الجار والمجرور كما تقول جئتك في أمس واليوم، والأشهاد جمع شاهد كصاحب وأصحاب يريد الأنبياء والحفظة، فالأنبياء يشهدون عند رب العزة على الكفرة بالتكذيب والحفظة يشهدون على بني آدم بما عملوا من الأعمال‏.‏ ‏{‏تَقُومُ‏}‏ بالتاء‏:‏ الرازي عن هشام

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 77‏]‏

‏{‏يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏52‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ‏(‏53‏)‏ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏54‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏55‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏56‏)‏ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏57‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏ إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏59‏)‏ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ‏(‏60‏)‏ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏61‏)‏ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏62‏)‏ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏63‏)‏ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏64‏)‏ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏65‏)‏ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏66‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏68‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ‏(‏69‏)‏ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏70‏)‏ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ‏(‏71‏)‏ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ‏(‏72‏)‏ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏73‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ‏(‏74‏)‏ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ‏(‏75‏)‏ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏76‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ‏}‏ هذا بدل من ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ‏}‏ أي لا يقبل عذرهم‏.‏ ‏{‏لاَّ ينفَعُ‏}‏ كوفي ونافع ‏{‏وَلَهُمُ اللعنة‏}‏ البعد من رحمة الله ‏{‏وَلَهُمْ سُوءُ الدار‏}‏ أي سوء دار الآخرة وهو عذابها ‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الهدى‏}‏ يريد به جميع ما أتى به في باب الدين من المعجزات والتوراة والشرائع ‏{‏وَأَوْرَثْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب‏}‏ أي التوراة والإنجيل والزبور لأن الكتاب جنس أي تركنا الكتاب من بعد هذا إلى هذا ‏{‏هُدًى وذكرى‏}‏ إرشاداً وتذكرة، وانتصابهما على المفعول له أو على الحال ‏{‏لأُِوْلِى الألباب‏}‏ لذوي العقول‏.‏ ‏{‏فاصبر‏}‏ على ما يجرعك قومك من الغصص ‏{‏إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ‏}‏ يعني إن ما سبق به وعدي من نصرتك وإعلاء كلمتك حق ‏{‏واستغفر لِذَنبِكَ‏}‏ أي لذنب أمتك ‏{‏وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعشى والإبكار‏}‏ أي دم على عبادة ربك والثناء عليه‏.‏ وقيل‏:‏ هما صلاتا العصر والفجر‏.‏ وقيل‏:‏ قل سبحان الله وبحمده‏.‏ ‏{‏إِنَّ الذين يجادلون فِى ءايات الله بِغَيْرِ سلطان أتاهم‏}‏ لا وقف عليه لأن خبر «إن» ‏{‏إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ‏}‏ تعظم وهو إرادة التقدم والرياسة وأن لا يكون أحد فوقهم، فلهذا عادوك ودفعوا آياتك خيفة أن تتقدمهم ويكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك لأن النبوة تحتها كل ملك ورياسة، أو إرادة أن تكون لهم النبوة دونك حسداً وبغياً وبدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 11‏]‏ أو إرادة دفع الآيات بالجدل ‏{‏مَّا هُم ببالغيه‏}‏ ببالغي موجب الكبر ومقتضيه وهو متعلق إرادتهم من الرياسة أو النبوة أو دفع الآيات ‏{‏فاستعذ بالله‏}‏ فالتجيء إليه من كيد من يحسدك ويبغي عليك ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السميع‏}‏ لم تقول ويقولون ‏{‏البصير‏}‏ بما تعمل ويعملون فهو ناصرك عليهم وعاصمك من شرهم‏.‏

‏{‏لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس‏}‏ لما كانت مجادلتهم في آيات الله مشتملة على إنكار البعث، وهو أصل المجادلة ومدارها حجوا بخلق السماوات الأرض لأنهم كانوا مقرين بأن الله خالقها فإن من قدر على خلقها مع عظمها كان على خلق الإنسان مع مهانته أقدر‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ لأنهم لا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم‏.‏ ‏{‏وَمَا يَسْتَوِى الأعمى والبصير والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسئ‏}‏ «لا» زائدة ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ‏}‏ تتعظون بتاءين‏:‏ كوفي، وبياء وتاء‏:‏ غيرهم، و‏{‏قَلِيلاً‏}‏ صفة مصدر محذوف أي تذكراً قليلاً يتذكرون و«ما» صلة زائدة‏.‏ ‏{‏إِنَّ الساعة لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا‏}‏ لا بد من مجيئها وليس بمرتاب فيها لأنه لا بد من جزاء لئلا يكون خلق الخلق للفناء خاصة ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ لا يصدقون بها ‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى‏}‏ اعبدوني ‏{‏أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ أثبكم فالدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن ويدل عليه قوله ‏{‏إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى‏}‏ وقال عليه السلام‏:‏

‏"‏ الدعاء هو العبادة ‏"‏ وقرأ هذه الآية صلى الله عليه وسلم‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ وحدوني أغفر لكم وهذا تفسير للدعاء بالعبادة ثم للعبادة بالتوحيد‏.‏ وقيل‏:‏ سلوني أعطكم ‏{‏سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏{‏سيُدخلون‏}‏ مكي وأبو عمرو‏.‏ ‏{‏داخرين‏}‏ صاغرين‏.‏

‏{‏الله الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً‏}‏ هو من الإسناد المجازي أي مبصراً فيه لأن الإبصار في الحقيقة لأهل النهار‏.‏ وقرن ‏{‏اليل‏}‏ بالمفعول له و‏{‏النهار‏}‏ بالحال ولم يكونا حالين أو مفعولاً لهما رعاية لحق المقابلة لأنهما متقابلان معنى، لأن كل واحد منهما يؤدي مؤدى الآخر، ولأنه لو قيل لتبصروا فيه فاتت الفصاحة التي في الإسناد المجازي، ولو قيل ساكناً لم تتميز الحقيقة من المجاز إذ الليل يوصف بالسكون على الحقيقة، ألا ترى إلى قولهم ليل ساجٍ أي ساكن لا ريح فيه ‏{‏إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس‏}‏ ولم يقل لمفضل أو لمتفضل لأن المراد تنكير الفضل وأن يجعل فضلاً لا يوازيه فضل وذلك إنما يكون بالإضافة ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ ولم يقل «ولكن أكثرهم» حتى لا يتكرر ذكر الناس لأن في هذا التكرير تخصيصاً لكفران النعمة بهم وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله ولا يشكرونه كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 66‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏‏.‏

‏{‏ذلكم‏}‏ الذي خلق لكم الليل والنهار ‏{‏الله رَبُّكُمْ خالق كُلِّ شَئ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الربوبية والإلهية وخلق كل شيء والوحدانية ‏{‏فأنى تُؤْفَكُونَ‏}‏ فكيف ومن أي وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان‏؟‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بئايات الله يَجْحَدُونَ‏}‏ أي كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها ولم يطلب الحق أفك كما أفكوا‏.‏

‏{‏الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً‏}‏ مستقراً ‏{‏والسمآء بِنَاءً‏}‏ سقفاً فوقكم ‏{‏وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ‏}‏ قيل‏:‏ لم يخلق حيواناً أحسن صورة من الإنسان‏.‏ وقيل‏:‏ لم يخلقهم منكوسين كالبهائم ‏{‏وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات‏}‏ اللذيذات ‏{‏ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فتبارك الله رَبُّ العالمين هُوَ الحى لاَ إله إِلاَّ هُوَ فادعوه‏}‏ فاعبدوه ‏{‏مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏ أي الطاعة من الشرك والرياء قائلين ‏{‏الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين‏}‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين‏.‏ ولما طلب الكفار منه عليه السلام عبادة الأوثان نزل ‏{‏قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَمَّا جَآءَنِى البينات مِن رَّبِّى‏}‏ هي القرآن وقيل العقل والوحي ‏{‏وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ‏}‏ أستقيم وأنقاد ‏{‏لِرَبِّ العالمين هُوَ الذى خَلَقَكُمْ‏}‏ أي أصلكم ‏{‏مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً‏}‏ اقتصر على الواحد لأن المراد بيان الجنس ‏{‏ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ‏}‏ متعلق بمحذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا وكذلك ‏{‏ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً‏}‏ وبكسر الشين‏:‏ مكي وحمزة وعلي وحماد ويحيى والأعشى ‏{‏وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبل بلوغ الأشد أو من قبل الشيوخة ‏{‏وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى‏}‏ معناه ويفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مسمى وهو وقت الموت أو يوم القيامة ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ما في ذلك من العبر والحجج ‏{‏هُوَ الذى يُحْيِى وَيُمِيتُ فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ‏}‏ أي فإنما يكوّنه سريعاً من غير كلفة‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يجادلون فِى ءايات الله أنى يُصْرَفُونَ‏}‏ ذكر الجدال في هذه السورة في ثلاثة مواضع فجاز أن يكون في ثلاثة أقوام أو ثلاثة أصناف أو للتأكيد ‏{‏الذين كَذَّبُواْ بالكتاب‏}‏ بالقرآن ‏{‏وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا‏}‏ من الكتاب ‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الاغلال فِى أعناقهم‏}‏ «إذا» ظرف زمان ماضٍ والمراد به هنا الاستقبال كقوله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ وهذا لأن الأمور المستقبلة لما كانت في أخبار الله تعالى مقطوعاً بها عبر عنها بلفظ ما كان ووجد، والمعنى على الاستقبال ‏{‏والسلاسل‏}‏ عطف على ‏{‏الأغلال‏}‏ والخبر ‏{‏فِى أعناقهم‏}‏ والمعنى إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم ‏{‏يُسْحَبُونَ فِى الحميم‏}‏ يجرون في الماء الحار ‏{‏ثُمَّ فِى النار يُسْجَرُونَ‏}‏ من سجر التنور إذا ملأه بالوقود ومعناه أنهم في النار فهي محيطة بهم وهم مسجورون بالنار مملوءة بها أجوافهم ‏{‏ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ‏}‏ أي تقول لهم الخزنة ‏{‏أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ يعني الأصنام التي تعبدونها ‏{‏قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا‏}‏ غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا ننتفع بهم ‏{‏بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً‏}‏ أي تبين لنا أنهم لم يكونوا شيئاً وما كنا نعبد بعبادتهم شيئاً كما تقول‏:‏ حسبت أن فلاناً شيء فإذا هو ليس بشيء إذا خبرته فلم تر عنده خيراً‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين‏}‏ مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلون عن آلهتهم حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا، أو كما أضل هؤلاء المجادلين يضل سائر الكافرين الذين علم منهم اختيار الضلالة على الدين ‏{‏ذلكم‏}‏ العذاب الذي نزل بكم ‏{‏بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ‏}‏ بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح بغير الحق وهو الشرك وعبادة الأوثان فيقال لهم ‏{‏ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ‏}‏ السبعة المقسومة لكم‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 44‏]‏‏.‏ ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ مقدرين الخلود ‏{‏فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين‏}‏ عن الحق جهنم ‏{‏فاصبر‏}‏ يا محمد ‏{‏إِنَّ وَعْدَ الله‏}‏ بإهلاك الكفار ‏{‏حَقٌّ‏}‏ كائن ‏{‏فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ‏}‏ أصله فإن نريك و«ما» مزيدة لتوكيد معنى الشرط ولذلك ألحقت النون بالفعل، ألا تراك لا تقول إن تكرمني أكرمك ولكن إما تكرمني أكرمك ‏{‏بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ‏}‏ هذا الجزاء متعلق ب ‏{‏نَتَوَفَّيَنَّكَ‏}‏ وجزاء ‏{‏نُرِيَنَّكَ‏}‏ محذوف وتقديره وإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب وهو القتل يوم بدر فذاك، أو إن نتوفينك قبل يوم بدر فإلينا يرجعون يوم القيامة فننتقم منهم أشد الانتقام‏.‏